على امتداد حوالي ثلاثة عقود، نحت المؤرخ المغربي عبد الله بوصوف تجربة فكرية فريدة من نوعها من خلال تراكم نوعي، فكري وثقافي، أكاديمي وجامعي، رسم من خلاله الملامح الكبرى لمشروعه الفكري، من داخل حقل التاريخ الحديث والمعاصر. وعلى غرار التجارب الكبرى انشغل المؤرخ بوصوف بتأصيل سؤال «الآن والهنا» جاعلاً من التاريخ حقلاً منفتحاً على الحقول الإنسانية والاجتماعية من علم اجتماع، أنثروبولوجيا، فلسفة، آدب، بحيث صارت الكتابة عنده تجريباً وترويضاً للمفاهيم والمقولات، بحيث يرتد هذا «الآن والهنا» إلى جذوره التاريخية وأصوله الأنثروبولوجية، كما هو واضح في كتابيه «ملكية في أرض الإسلام» الصادر سنة 2018 في فرنسا باللغة الفرنسية، و»في مواجهة المرآة، مرافعة من أجل سياسة عمومية لصورة المغرب» الصادر باللغتين العربية والفرنسية خلال الأسبوع الماضي، الذي قمت بترجمته إلى اللغة العربية، وصدر عن مؤسسة باحثون للدراسات، الأبحاث، النشر والاستراتيجيات الثقافية، وفي ما يلي قراءة تقديمية لهذا الكتاب:
صورة المغرب بين الأنا والآخر
الكتابة عن صورة المغرب عند عبد الله بوصوف كتابة مخضبة بالكثير من المعرفة والأمل والاعتزاز بالهوية المغربية. ولذلك، فترجمة هذا المؤرخ إلى اللغة العربية، كما إلى باقي اللغات العالمية، هي ترجمة في العمق لتاريخ طويل من الانتماء الفكري والثقافي، ولهوية متجذرة في التاريخ الكوني، وهي بتعبير آخر ترجمة للمشاعر والأحاسيس التي يصعب نقلها بدفئها الدافق إلى اللغات الأخرى. فمن صورة الذات كما تدركها الأنا العالقة في تناقض الغيرية المحكومة بالمصالح الاستراتيجية وأحكام القيمة إلى وضع تصور مستقبلي للسياسات العمومية التي لا تنفصل عن الصورة – العلامة الدالة على الدولة – الأمة العريقة، حيث تنتصب قامة المغرب والمغاربة في متن عبد الله بوصوف الكتابي ومنجزه الفكري في هذا الكتاب، تكتمل الوحدات الضوئية للصورة النموذجية التي يرسمها بوصوف في متن هذا الكتاب.
المغرب بين الحاضر والماضي
ظل المغرب وما يزال محط أطماع اقتصادية وسياسية متجددة، ولم تنفصل عن مطامع استعمارية منذ الفينيقيين إلى اليوم، وفق تجدد صورة المستعمر ورؤيته الاستراتيجية، بيد أن تمثلات هذه القوى المتربصة بالبلاد ظلت كما هي، بالنظر إلى موقع المغرب الاستراتيجي وعمقه التاريخي والحضاري، وهو موقع أهله دوما لاكتساب ذكاء استراتيجي منفرد في المنطقة. ولذلك، فكل تحرك توسعي على المستوى الاقتصادي أو السياسي، يقابل بقوى معارضة على مستوى المربع السيميائي الذي يجعل المغاربة ملزمين باتخاذ الحيطة والحذر، والاستمرار في تأطير صورتهم داخلياً وخارجياً. قليلة هي الكتابات الجادة التي تناولت صورة المغرب داخلياً وخارجياً، ولربما يمكن اعتبار تناول هذا الموضوع قد ظل نخبوياً، على الرغم مما للموضوع من أهمية استراتيجية في زمن أصبحت القوى الناعمة، هي التي تحدد النظام العالمي الجديد، الذي لا يمكن في أي حال من الأحوال فصله عن الثورة التكنولوجية وما رافقها من ثورة ثقافية، جعلت من الصورة مفتاح الحروب في بعديها الكلاسيكي وما بعد حداثي. ولهذا، فكتاب المؤرخ عبد بوصوف يعتبر في حد ذاته حدثاً فكرياً وثقافياً بالنظر إلى عمقه المعرفي، حيث التاريخ، الجغرافيا السياسية، علم الاجتماع، الأنثروبولوجيا، الأركيولوجيا، مستندات ذات قيمة جوهرية في تحليله العميق لصورة المغرب. إن انشغال عبد الله بوصوف وانهمامه بالهوية المغربية في تعددها وتنوعها المرجعي، يستوي في هذا الكتاب صناعة للقوة الناعمة لمغرب الغد. قوة تتجلى في كون الصورة وارتباطاتها بمفاهيم البورتريه والسمعة والعمق الاستراتيجي، هي بالنهاية صناعة وابتكار وإبداع، وليس مجرد معطى ثقافي خام. ولهذا، فحين يُشَرِّحُ مفهوم السمعة الدولية للمغرب ويفكك مكوناتها الدلالية، فهو يضع الأصبع على مكمن الداء الذي يجعلنا نخجل بتعبير ملك البلاد من التناقضات التي يسجلها نموذجنا التنموي والسياسي، خاصة أن المغرب يتوفر على كل مقومات الإقلاع الاقتصادي والصناعي والاجتماعي، وبعبارة شاملة مانعة، للإقلاع المجتمعي والحضاري.
إن قراءة هذا الكتاب هو أساساً تذكير بهذه المقومات التي تمتد جذورها عميقاً في التاريخ والثقافة، وإحالة مرجعية على الخصوصية السياسية لبلد شريفي يستوي الدين والتدين فيه طبقة رسوبية من الإبداع الذي جعل الدين دوما في قلب المجتمع، مثلما جعل الملكية في قلب المتخيل كمعطى سيكو أنثروبولوجي. وعليه، فالاستقرار بفضل الانسجام الحاصل بين وحدات الصورة النموذجية للمغرب، المشكلة من الشعب وإمارة المؤمنين، هو في العمق ما يضمن قوة المغرب وتوازنه السياسي المنفتح على الحداثة، التي يشير إليها عبد الله بوصوف كمرتكز من مرتكزات هذه الصورة النموذجية، التي يجب الترويج لها بحرفية وذكاء استراتيجيين.
إذا كانت الترجمة هي نقل وتحويل لنص مكتوب بلغة إلى لغة أخرى، فإنها في العمق الدلالي والمرجعي نقل للحضارة والفكر والثقافة، بل تحويل لحياة النص الأصلي ليحيا حياة ثانية في النص المترجَم، بما يعني في النهاية ولادة ثانية للكاتب ونصه على حد سواء. ولذلك، فشعوري بتدفق الحياة والانتصار إلى الجميل لا يرتبط فقط بلذة الترجمة، على الرغم من صعوبة التوفيق بين الألفاظ ودلالاتها في اللغتين العربية والفرنسية لاختلاف السياق المجتمعي لكل لغة، واختلاف الأنساق الثقافية، ومن ثم تباين البعد الأنثربولوجي للمشاعر، التي لا تنفصل عن توظيف الكلمات والعبارات، بل يرجع إلى قوة الكتاب وأبعاده الاستراتيجية، وإلى عمقه الشعري، بكل ما تفيده شعرية اللغة وجماليتها عند بوصوف.
الترافع عن صورة المغرب كاستراتيجية وطنية
إذا كانت الصورة صناعة، والسمعة إبداعا وابتكارا، فإنها هنا لا تنفصل عن السياسة، إلا لكي ترتبط بها من جديد على قاعدة فن تدبير الممكن، وتجاوز الكائن ونواقصه، وهو ما جعل عبد الله بوصوف القادم من حقل التاريخ يحرث حقل السياسة العمومية ومستلزماتها القانونية والاجتماعية والاقتصادية، هائماً في مختلف المراحل التاريخية للمغرب ومنقباً عن شروط هذه الصناعة، بوصفها حسب بوصوف، استراتيجية بامتياز. ولذلك، فدعوته لتشكيل هيئة عليا للسمعة الوطنية وللصورة النموذجية للمغرب، هي دعوة في الحقيقة، إلى تحقيق القوة الناعمة بكل ما يرتبط بها من إقلاع اقتصادي وإبداع سياسي وتكريس دولة الحق والقانون، باعتبارها دولة الحداثة المنشودة، والتي تتأسس كما يشير إلى ذلك بوصوف، على قاعدة مغرب المساواة.
إن ما نريده لأنفسنا ليس بالضرورة ما يريده الآخر لنا، وما يريده المغرب الرسمي من الآخر أن يراه عليه، ليس هو تماماً كيف يراه هذا الآخر في نهاية المطاف، بحيث تتشكل هذه الصورة من أبعاد ذاتية استراتيجية نفعية للآخر، دون أن نجرده من موضوعيته في بعض الأحيان. وعليه، فبين الذات والآخر تنتصب الغيرية كمؤشر من مؤشرات النظرة التي تشكل سمعة المغرب داخلياً وخارجياً.
إذا كانت هذه الصورة ذات أهمية عظمى في تسويق المغرب ثقافياً واقتصادياً وسياسياً، فإن مرجعيات هذه الصورة تكمن في كل الأبعاد المادية والرمزية، سواء تعلق الأمر بالتاريخ وما يضمره ويختزنه من موروث مادي ولا مادي، أو تعلق الأمر بالحاضر وتجلياته في الاقتصاد والسياسة والاجتماع. ومن هنا، فصناعة الصورة تقتضي ترسانة من الإصلاحات والمقومات التي ترتبط أشد الارتباط بالصناعات الثقافية والسياحية والاقتصادية والقانونية والمؤسساتية، في ظل دولة المؤسسات.
إن قراءة أعمال عبد الله بوصوف كفيلة باستنطاق مناطق العتمة التي تشكلت حول مدارات البياضات التي تركها التاريخ في انتظار من يضيئها، وهي الإضاءة التي تتطلب قدراً كبيراً من الذكاء التاريخي والمعرفي والفطنة التي لا تستقيم إلا بالتزود بعدة منهجية ومفاهيمية، كفيلة بتفكيك تناقضات تاريخ المغرب، كما كتبه الآخرون، والتاريخ كما يكتبه المغاربة، ومن بينهم عبد الله بوصوف.
وعلى غرار عبد الله العروي يندمج التاريخ عند بوصوف في مدارات الفكري الإنساني دون حدود فاصلة بين الفلسفة وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وحقل الأدب والفنون. وهو ما يجعل متعة الكتابة/ القراءة عند المؤرخين اللذين يشتركان الاسم الشخصي: عبد الله، كما يشتركان في الرؤية، نابعة من ترويضهما للتخييل التاريخي والتأويل الثقافي للرموز، باعتبار الثقافة شبكة من الرموز والعلامات بتعبير كليفوردغيرتز.
Ce site utilise des cookies pour améliorer votre expérience. Nous supposerons que cela vous convient, mais vous pouvez vous désabonner si vous le souhaitez. AccepterLire Plus