المأمول هو العودة إلى بناء علاقات مغربية ألمانية تحترم الإرث التاريخي للبلدين
بقلم: د. عبد الله بوصوف
أَسالت رسالة تعليق الاتصال بسفارة ألمانيا بالمغرب نتيجة “سوء تفاهمات عميقة” الكثير من المداد، واتسعت رقعة النقاشات فيها ووصل البعض فيها إلى دس سوء فهم عميق مقصود في النقاش من أجل خدمة جهات معادية، أو لتحريف النقاش عن موضعه.
فمضمون الرسالة يبقى قرارا سياديا خالصا يخص المغرب دون غيره، ويخص حماية مصالحه الإستراتيجية، كما أنه جاء دقيقا يخص سفارة الرباط وحدها دون غيرها من قنوات الاتصال الأخرى مع ألمانيا، ما يجعل من قرار التعليق درجة في الاحتجاج وليس بالقطيعة كما حاول البعض الترويج لها، ويكفي الرجوع قليلا إلى بعض المحطات والأحداث لفك بعض رموز “سوء تفاهمات عميقة” الواردة في رسالة تعليق الاتصال في مطلع مارس، الذي تزامن مع حالة ترقب قرار محكمة العدل الأوربية بلوكسمبورغ، والذي نزع عن جبهة “بوليساريو” “الصفة” في التقاضي، وتمثيل سكان الصحراء المغربية خارج إطار التمثيل السياسي.
لقد حاول البعض أن يشكك في ذكاء الدبلوماسية المغربية، ويسحب منها كل الانتصارات، عندما ربط تعليق الاتصال برفع “خرقة” جبهة الانفصال بإحدى بنايات البلديات الألمانية التي ترتبط معها بـ “توأمة”.
والجميع يعرف كيف تمت هذه التوأمات الوهمية مع العديد من البلديات الصغيرة والقرى البعيدة بأوربا، وكيف لعب البترول والغاز الجزائري دورا في تسهيل توقيع اتفاقيات مع مجرد خيام بتندوف.
وهو تمويه فاشل حاولت الأقلام المأجورة زرعه في مساحات “سوء تفاهمات عميقة”، والأقلام نفسها جرتنا إلى القضية الوطنية وموقف ألمانيا منها الذي لا يختلف كثيرا عن العديد من البلدان الصديقة، أي أنها لا تعترف بكيان “بوليساريو”، وتتفق على دعم حل سياسي توافقي في إطار قرارات مجلس الأمن الدولي.
وإذا علمنا أن القرارات الأخيرة لمجلس الأمن تصب في اتجاه تثمين مبادرة الحكم الذاتي، وتصفها بالواقعية والجادة، فإننا لا نملك جوابا آخر لدعاة تحريف النقاش عن موضعه.
بالمقابل، أشادت العديد من الفعاليات بذكاء وحكمة الدبلوماسية المغربية، بدليل انتصاراتها في أكثر من ملف، سواء ملف اللقاح ضد “كوفيد 19” أو ملف الصحراء المغربية. لكن هذا لا يعني أن مساحات “سوف التفاهمات العميقة” لا تبتعد عن الصحراء المغربية، ليس من جهة عدالة القضية والسيادة المغربية باسم التاريخ والقانون والجغرافيا، بل تعني المصالح الاقتصادية الإستراتيجية فوق الصحراء المغربية. وهنا لا بد من استحضار عاملين: أولا، المشروع الألماني الكبير المتعلق بالطاقة المتجددة والنظيفة (ديزيرتيك)، وهو مشروع لمنظمة تحمل الاسم نفسه، ومقرها في ميونيخ الألمانية مع شركاء من عالم الصناعة والتكنولوجيا والأعمال، بهدف تسريع المشروع فوق مساحات الصحراء من المغرب إلى مصر وغيرهما، سيمكن من توفير 15 في المائة إلى 20 من احتياجات أوربا من الطاقة في أفق 2050. ففي سنة 2010، رفضت سلطات الجزائر المشروع لأسباب غير معروفة، ما أهل المغرب للتربع على المشروع الطاقي الأكبر في العالم، أي مشروع “نور”، وتوالت مشاريع الطاقة النظيفة في المغرب وستفتح آفاق كبيرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو شيء أزعج الجيران.
وثانيا، مؤتمر برلين حول ليبيا. ففي يناير 2020 دعت ألمانيا بمباركة من الأمم المتحدة الى عقد مؤتمر لحل المشكل الليبي ودعت اليه كل الأطراف التي ساهمت في تقديم الحلول وأيضا الجزائر لأنها دولة حدودية مع ليبيا واستثنى المغرب الذي حقق المصالحة الوطنية الأولى في الصخيرات منذ 2015. وبالتالي كان ملفتا عدم حضور المغرب في مؤتمر برلين الأول حول ليبيا، لأنه شريك قوي في عملية السلام الليبي، في حين أن حضور الجزائر عُلٍل بالحدود المشتركة، لكن ليبيا لها شركاء حدود كُثُر، فلماذا فقط الجزائر؟ وبذكرنا لمؤتمر برلين 2020، فإننا نستحضر مؤتمرات برلين 1884 من أجل تقسيم إفريقيا الغربية ومؤتمر برلين 1954 بعد موت ستالين، وهو ما يجعل من مؤتمرات برلين مرادفا لبداية الإعلان عن خريطة سياسة جديدة، وإعلانا عن تسويات سياسية لصراع الدول الكبرى، مع تحديد الأدوار الجديدة، والمحافظة على المصالح الإستراتيجية للدول الكبرى. كما أن التاريخ يذكرنا بزيارة الإمبراطور غيوم الثاني لطنجة في 1905، وحادث ميناء أكادير في 1911، فقط من أجل موقع قدم بالمغرب الذي ستتخلى عنه مقابل قطعة كبيرة بالكونغو الفرنسية.
وستستمر أحداث العنف والقتل وحرب الآبار في ليبيا حتى بعد مؤتمر برلين 2020، بحضور الجزائر وتَغْييب المغرب، ما سيستدعي تدخلا جديدا للمغرب إلى جانب الأمم المتحدة، وهكذا عُقدت لقاءات بوزنيقة في شتنبر وأكتوبر 2020. وببروز معطيات إيجابية، عقد مؤتمر برلين الثاني عن بعد، ثم لقاء طنجة لأعضاء البرلمان الليبي. لكن الحدث المثير هو إعلان وزير الطاقة الجزائري، في فبراير 2020، عن توقيع اتفاق جديد بين “سونيلغاز” ومسؤولي “ديزيرتييك” في أبريل 2020 من أجل الشروع في تنفيذ مشروع الطاقة المتجددة فوق الصحراء الجزائرية، يعني مباشرة بعد مؤتمر برلين يناير 2020، حول ليبيا الذي حضرته الجزائر وتم تغييب المغرب.
وسيستمر “شهر العسل” بين ألمانيا والجزائر، باستقبال الرئيس الجزائري في رحلة علاج طويلة جدا بمستشفى عسكري بألمانيا، وهو أمر غير عاد، إذ كان المنتظر نقله إلى مستشفى بفرنسا، نظرا للعلاقات مع فرنسا وللتاريخ الاستعماري.
أعتقد أن كل هذا وغيره، من شأنه خلق مساحات كبيرة “من سوء تفاهمات عميقة” بين سفارة ألمانيا بالرباط والمسؤولين المغاربة، ويجعل من رسالة قطع الاتصال رسالة احتجاج وليست قطيعة مع ألمانيا، التي يعلم الجميع حجم قوتها الاقتصادية والمالية والعضو القوي في الاتحاد الأوربي، والعديد من المنظمات الحقوقية ومجموعات التفكير (تينك تانك)، وهو ما لم يغب عن مسؤولي الدبلوماسية المغربية، إلا أن المأمول اليوم هو العودة إلى بناء علاقات مغربية / المانية يسودها احترام الخصوصيات الوطنية والسيادية وعقد شراكات إقتصادية واجتماعية وحقوقية تحترم الإرث التاريخي للبلدين، وبرامج تبادل الخبرات في مجال محاربة الهجرة غير الشرعية والإرهاب الدولي، ومبادرات تساهم في نشر السلم في العالم.
الأمين العام لمجلس الجالية المغربية بالخارج
assabah